زيارة المجوس إلى بيت لحم


زيارة المجوس إلى بيت لحم
بيت لحم – عيد الظهور – الأحد 6/1/2019

يصادف اليوم بحسب طقسنا الكنسيّ عيد الظهور، وهو على فكرة أحد أقدم الأعياد في المسيحية. ولهذا العيد معانٍ مختلفة بين الشرق والغرب. فالعادة في الشرق أن يكون التركيز على معمودية المسيح المعمودية أو "الغطاس"، أما في الطقس الغربي فنحيي اليوم زيارة المجوس إلى المسيح. فاليوم نرى كيف تراءى أو ظهر أو لمع المسيح للمجوس أو للأمم أنه المرسل من الله!
فاليوم تركيزنا هو على قصة المجوس، هذه القصة التي أثارت مخيلتنا عبر القرون. فهذا الأسبوع كان هناك إحياء لهذه الفكرة بزيارة رمزية لمجوسٍ إلى بيت لحم، وهذه ليست المرة الأولى. في العام 2000 أتت قافلة كبيرة على الجمال إلى بيت لحم عبر دول كثيرة تحت شعار: العودة إلى بيت لحم!  وهنا في بيت لحم، لهذه القصة وقعها الخاص، فبحسب الرواية المتداولة، عندما غز الفرس فلسطين عام 614م، قاموا بتدمير وحرق كلّ الكنائس، باستثناء كنيسة المهد – وحدها نجت من الدمار، والسبب هو لوحة فنية كانت في الكنيسة للمجوس بزيّ فارسي تقليديّ.
البعض على فكرة يعتقد أنّ المجوس كانوا عربًا وليسوا فرسًا! فنذكر مثلاً  أحد الآباء جاستن الشهيد (الذي كان بدوره من نابلس)، الذي كتب أنهم كانوا عربًا وذلك من هداياهم. واليوم هناك بعض المفسّرين الذين يقولون بأن المجوس كانوا ملوك الهند وفارس والعربية! ولكن الغالبية تؤمن أنهم كانوا فرسًا.
ولكن، هل كانوا ملوكًا؟ حتى هذا لا نعرفه على فكرة. هداياهم كانت ملوكية، ولكن لا يعني هذا بالضرورة بأنهم كانوا ملوكًا. وهم أيضًا لم يكونوا بالضرورة ثلاثة من ناحية العدد! كان هناك ثلاث هدايا، ولكن لا يقول متى أنهم كانوا ثلاثة مجوس. في الواقع، وبحسب تقليد الكنيسة الشرقية، كان عددهم 12! وعلى فكرة أيضًا، الأغلب أنهم لم يزوروا العائلة المقدسة مباشرة بعد الولادة (أي في المغارة!). ربما كانت الزيارة بعد عامين من الولادة!
فمن كان المجوس؟ ربّما كانوا حكماء، أو دارسي علوم فلك من إيران، مما يفسّر أنهم اتبعوا نجمة ليجدوا المسيح في بيت لحم! في كلّ الأحوال، وكما سنرى – هويتهم المهنية ليست بيت القصيد (إن كانوا حكماء، منجمين، أو ملوكًا!). بيت القصيد هو هويتهم الانتمائية أو العرقية، وبالتحديد أنهم لم يكونوا يهودًا. فلنتأمل الآن في أهم معاني الحادثة، ولنسأل: ماذا يريد متى أن يوصل لنا من الانجيل؟
أولاً: مولود بيت لحم هو ملك كونيّ – أي ملك كل الشعوب! أهم ما في المجوس هو أنهم لم يكونوا يهودًا، وجاءوا من المشرق يبحثون عن ملك اليهود! فمتى يشدّد هنا وفي بداية انجيله: يسوع المسيح هو ملك الكلّ، وليس اليهود فقط، إذ أتى ملوك المشرق ليعبدوه وليقدّروه كملك وليعطوه التكريم الذي يليق به كملك! فالهدايا كما ذكرت كانت هدايا تُقدّم للملوك، وهنا علامة أو دلالة على ملوكيته. وهي هدايا على فكرة كانت غالية الثمن.
هذا الأمر هو تحقيق لمقاصد الله وخطة الله، وهو أيضًا تكميل لنبوات العهد القديم. فقرأنا في نبوة أشعياء اليوم كيف أن الأمم ستسير في النور الخارج من القدس – أي نور المسيح المنتظر. ومزمور 72 يقول عن المسيح بأنه سوف "َيَمْلِكُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ.. ومُلُوكُ تَرْشِيشَ وَالْجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً. مُلُوكُ شَبَا وَسَبَأٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّةً. وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ الْمُلُوكِ. كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ."
(Bartolomé Esteban Murillo - Adoration of the Magi)
يسوع المسيح هو ملكٌ كونيّ أي ملك كل الشعوب. فإنجيل اليوم – الخبر السار لنا اليوم – هو أن العنصرية لا مكان لها في المسيحية! لا مكان لعنصرية اثنية، أو طائفية أو دينية، أو قبلية في إيماننا المسيحيّ. (ما أحبّه في بعض الايقونات التي تحيي زيارة المجوس هو تجسيدها للتنوع البشريّ – بشر من كلّ الخلفيات يجتمعون معًا!) تنوّعنا كمسيحيين هو جزء من هويتنا، وهو مهمٌ وضروريّ. وفي هذا تحدٍّ لأي فكر عنصري، ولأي فوقية أو تعالي، وهذه رسالة الانجيل.

واليوم نتذكر أنّ المسيحية هي ظاهرة كونية، فالمسيحية بدأت من الشرق (مفاجأة حتى لبعض الفلسطينيين)، ولكنها موجودة في كلّ العالم بأشكال وقوالب متعددة. واليوم أغلبية المسيحيين من يأتون الجنوب. ولهذا السبب أحبّ دائمًا أن أستضيف هنا مسيحيين من دول بعيدة عنا لنسمع عن تجاربهم وتحدياتهم، وأيضًا كي نتذكر أننا جزء من كنيسة واحدة جامعة – هذا هو معنى "جامعة".
ثانيًّا، رسالة متى لنا هي أنّ مولود بيت لحم هو ملك، وهو يتحدى ممالك العالم! التركيز الكبير في قراءة اليوم هو يسوع "الملك"! وهذا الكلام من متى هو تحدٍّ لكل الملوك الذين عاصروا المسيح. وفي هذا تحدٍّ! فالمسيح عنا يتحدى منطق القوة. يتحدى امبراطورية عصره. فمتى يقول لنا بأن هيرودس اضطرب! والأكثر أنه جنّ جنونه. وفي هذا رمزية. الملك العظيم صاحب الجيش والجبروت... نراه خائفًا على عرشه.
هناك مملكة جديدة؛ ملك جديد! مولود بيت لحم هو الملك الجديد. لا تستهينوا بالأمر. فعندما كتب متى كانت المسيحية مُضطهدة وضعيفة وأعدادها قليلة، ولكن متى كان لهُ الجرأة أن يُعلن يسوع ملك العالم. وحتى نرى متى يستهزأ بهيرودس بوصفه إياه خائفًا ومهووسًا. الملك اضطرب... بينما الهدايا الملوكية ذهبت للملك الحقيقيّ.
واليوم، وبعد ألفي عام، هيرودوس هو مجرّد ذكرى، ونحتاج إلى جبل (من صنع البشر على فكرة) ليذكرنا بهِ كملاحظة على الهامش عندما نتكلم عن يسوع. هذا الجبل يشهد على بطشه وجنونه، بل على بطش وظلم كل احتلال وتجبّر واستبداد. بينما مغارة المهد تشهد عن وداعة وسمو المسيح، وويزورها الساجدون يومًا فيوم؛ الساجدون ليسوع الملك والشاهدون لمملكته العالمية!
لذا أقول أخيرًا، أن يسوع المسيح اليوم هو ملك يتحدانا جميعًا، يتحدانا بضعفه وفقره ووداعته. فهل نقبله ملكًا؟ وهل نقبل نهجه هذا؟ فالتحدي لنا اليوم أن نختار ما اختاره المجوس – أن نأتي أمام المسيح ونقدّم له هدايانا؛ أنفسنا، قلوبنا. فسجودنا أمام المسيح، مولود مغارة بيت لحم، ابن نجّار الناصرة، هو إقرارٌ واعتراف بأننا نتبع لهُ. وبأننا سنتبعه اليوم وكلّ اليوم.
في هذا اليوم، عيد الظهور، نتذكر أن يسوع هو النور الذي يضيء على الجالسين في الظلمة. هو الذي أشرق علينا. وهو الملك الحقيقيّ. فيه السلام، والفرح، والملء.
قبل ألفي عام، أدرك المجوس هذه الحقيقة. أتوا إلى بيت لحم. غامروا. ضحّوا. بحثوا. سعوا. حتى وجدوا المسيح. أتوا... وسجدوا للطفل، وقدّموا كنوزهم. فماذا عنا - أنت وأنا اليوم؟ ماذا عنّا؟


Comments