كلمة تقدير وشكر للقسيس متري الراهب

أحد العنصرة - بيت لحم
نأتي ونذهب... وتبقى الكنيسة
4-6-2017


شاء التدبير الالهي أن يكون الأحد الأول لي كراعٍ لهذه الكنيسة هو أحد العنصرة، اليوم الذي نتذكر فيه بداية الكنيسة؛ الكنيسة التي هي جسد المسيح والتي اقتناها لنفسه بدمه. واليوم طبعًا، نقول جميعنا كلمة شكر ومحبة لمن رعى كنيسة الميلاد لثلاثين عامًا القسيس متري الراهب.

علاقتي مع القسيس متري بدأت قبل حوالي أربعة أعوام ونصف. عند العودة من بريطانيا التقيت مع القسيس متري، وكان هدفي أن أستشيره عن المستقبل. كنا طبعًا نعرف بعضنا البعض، ولكننا لم نكن أصدقاء مقربين. كنت أكن له الاحترام إذ عرفته ككاتب ولاهوتي. كنا أنا وردينة وقتها ننوي الانضمام إلى الكنيسة اللوثرية بشكل رسمي، إذ رأينا فيها التعبير الأنسب عن إيماننا الانجيلي. ولكنني صممت قبل أي خطوة أن أقابل القسيس متري أولاً وأن أستشيره، لاحترامي الشديد له. لم يتردد القسيس في قبول طلب أن نلتقي. هذا اللقاء غيّر حياتي بالكامل!




سألته عندها سؤالاً: هل ستعطيني الكنيسة اللوثرية- في حال انضممت اليها – مساحة لأخدم؟ أجابني: الأمر يتعلق بك، وليس بنا. سنعطيك كل المساحة التي تريد، فالسؤال هو كم أنت مستعد أن تعطي.

هنا بدأ الحديث عن الرسامة... وكان الأمر غير متوقع بالنسبة لي! بعد هذا اللقاء نشأت بيننا شراكة أعتز بها. وعبر ثلاث سنين خدمت فيها إلى جانب القسيس متري، تعلمت الكثير منه وعنه. بل وأعتبره شرف لي أن أكون قد خدمت معه وتعلمت منه! واسمحوا لي في هذا الصباح، أن أشارككم وباختصار بضع ما تعلمت في هذه السنوات من القسيس متري، وطبعًا من قراءة كتبه والاستماع إلى محاضراته:

تعلمت منه معنى الرجاء في زمن اليأس: خدم القسيس متري هذه الكنيسة في أصعب الظروف التي مرّت بها بلادنا، ولكنه لم يؤمن باليأس أو يستسلم للقدرية. كان وما زال دائمًا يرى في فلسطين وشبابها الأمل. وهو يؤمن بالاستثمار بالإنسان الفلسطيني، وبضرورة البناء والعمل. وطبعًا هذا الرجاء مصدره الإيمان بالله وبالمسيح المقام. فنحن شعب الرجاء.

لكن ما تعلمته من القسيس – وما رأيته – هو أن الرجاء لا يعني انتظار الفرج، بل العمل. الرجاء هو العمل لا الانتظار. ربما هنا تأثر القسيس من المصلح مارتن لوثر عندما كتب: "الرجاء هو أن تعلم أن العالم سينتهي غدًا، فتخرج إلى الحقل وتزرع شجرة زيتون اليوم".

والقسيس زرع الكثير من أشجار الزيتون... الدار تلو الدار، الحجر تلو الحجر. فهو غيّر معالم بيت لحم – حرفيًا ومجازيًا بعمله هذا! كالعبد الأمين في مثل الوزنات – صنع الكثير من القليل، ويحقّ له أن يسمع يومًا: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير". أذكر هنا في إحدى العظات أنه قال أنه لا يمانع أن يدعوه البعض برجل الأعمال (business man)، بل أنه يرى في ذلك مديحًا، إذ أنه يرى في هذا اتمامًا لوصية المسيح بالعمل والاستثمار من أجل الكنيسة والمجتمع. قد نسمي هذه "روحانية العمل".

مفتدين الوقت: في نفس السياق، آمن القسيس بأهمية الوقت – بل أهمية إدارة الوقت، لدرجة ربما إدمان العمل! وربما هنا تطرف قليلًا القسيس (أنا متأكد أن نجوى تعتقد أنه تطرف كثيراً). فهو أعطى حياته لخدمته، وعمل – حرفيًا – ليلاً نهاراً، على مدار الأسبوع. كنا تلتقي أحيانًا في ساعات متأخرة وكان الأمر عاديًا بالنسبة له. أذكر في بداية هذه السنوات أنه أعطاني موعدًا من الساعة 4:10 إلى الساعة 5:00! وأدركت عندها أن أحد أسباب نجاحه هو فهمه لأهمية الوقت. بشكل عام كان يلتزم بالوقت – وعندما أتأخر 10 دقائق كان يذكرني بشكل غير مباشر أنني تأخرت. عندما سافرت معه، كان يجلس في الاستراحة في الباص يجيب على الرسائل الإلكترونية من هاتفه. وكم من مرة عاد من سفره من خلال الأردن يوم الأحد صباحًا ووعظ في الكنيسة في صباح ذلك الأحد (وطبعًا تكون عظة محضرة ومكتوبة ومميزة).

لا عجب أنه كتب هذا الكمّ من الكتب وأنجز كل هذه الانجازات.

والقسيس متري عرف متى يقول "لا" لبعض الأمور. كان يقول للكثير من الدعوات والاحتفالات في البلاد وخارجها "لا" – مقتبسًا، كما قال لي مرة - تعليم المسيح: "دع الموتى يدفنون موتاهم، أما أنت فاذهب ونادي بالملكوت".

قراءة الكتاب المقدس بعيون فلسطينية: لاهوتيًا، تعلمت منه أن أقرأ الكتاب المقدس بعيون فلسطينية، وبشكل خاص في السنوات الثلاث الأخيرة أن أعظ الكتاب المقدس في السياق الفلسطيني. دائمًا يقول: "الكتاب المقدس كتاب فلسطيني بامتياز". ونحن كفلسطينيين "أفضل من يجب أن يفهم ويعلم الكتاب". فالكتاب المقدس كتب في سياق الاحتلال والنزاعات والتطرف الديني والتهجير. فيه نقرأ عن انتفاضات وحركات دينية وامبراطوريات متعاقبة. المهم، كان دائمًا يقول لي، يجب أولاً أن تتخلى عن النظارات الغربية عند تفسير الكتاب. مع الزمن أصبحنا نمزح مع بعضنا البعض: "خربتني يا قسيس! صرت أقرأ الكتاب المقدس مثلك". ولكن بجدية أقول – نعم أنا إنسان أعتبر نفسي لاهوتي وباحث في الكتاب المقدس (سنين من الدراسة والشهادات والكتابات)، ولكن تعلمت من القسيس أمور جديدة عن التفسير وتحليل النصوص ستغني تفسيري وعظاتي.

الإيمان بالعدالة والحق: دافع القسيس عبر السنين عن قضيتنا، من إيمانه بالحقّ وبالله الذي ينصر المظلوم. كتب وجال العالم وأيضًا كان له مواقف جريئة. تحدى اللاهوت الغربي الداعم للاحتلال، ونادى بالمقاومة الشعبية. هذا العمل – الدفاع عن العدالة ومواجهة لاهوت المسيحية الصهيونية هي أمور كانت وما زالت مهمة جدًا بالنسبة لي. فمن العام 2011 وأنا أقود مؤتمرات المسيح أمام الحاجز، بالإضافة إلى العديد من النشاطات الأخرى مثل وجودي في مجلس كايروس. هذه أحد الأمور التي قادتني إلى الكنيسة اللوثرية.

لكن في السنين الأخيرة، تعلمت من القسيس متري الجرأة في الطرح. عندما يتكلم في مؤتمرات لاهوتية فهو يتكلم بثقة وبعزة نفس ودون أي مساومة أو دبلوماسية. وهو لا يقول ما يريد الناس أن يسمعوا كي ينال ما يريد. أحيانًا كان يصدمني بجرأته. كنت أريد أن أقول له: "ما تزيدها عليهم... خد وأعطي". ولكن بحكمته وإيمانه برسالته كان لا يساوم. وهو ورفض الشراكة مع بعض المؤسسات والكنائس، وهذا يعني خسارة آلاف الدولارات، لأنه لا يساوم على مبادئه.

القسيس متري هو قسيس انجيلي لوثري بامتياز. الإيمان الانجيلي: من أحلى العظات عن الايمان الانجيلي – التبرير بالإيمان لا بأعمال الشريعة، أننا خطاة ومبررين في الآن نفسه، وعن معنى الصليب، والحرية الانجيلية -  سمعتها من على هذا المنبر. والايمان الانجيلي واقع معاش في هذه الكنيسة. فنحن نخدم الله، كما كان القسيس يذكرنا، بدافع المحبة لا الفرض. ونحن أحرار في المسيح، ولكننا أعطينا أنفسنا لله وأيضًا للإنسان قريبنا – من هذه الحرية.

شدد قسيسنا على هذه الحرية كثيرًا، مذكرًا إيانا بأن مجتمعنا يفتقد هذه الحرية، حيث التديّن الزائف وانعدام الأخلاق. بلادنا، اعتاد أن يقول القسيس، تحتاج الإيمان لا الدين! تحتاج الحرية لا الشريعة. هناك الكثير من السياسة والدين في أرضنا – ما نحتاجه هو الإيمان. هكذا كان أيام المسيح، وهكذا هو الحال اليوم. فلأن المسيح حارب الشريعة، ولأنه حارب ثقافة الحلال والحرام – صلبوه وقتلوه. المسيح نفسه ذهب ضحية التطرف الديني. هذا أيضًا أمرٌ مهم ساعدني القسيس أن أراه.

أهمية الكنيسة: أخيرًا، أحد أهم الأمور التي رأيتها واقعًا معاشًا عند القسيس هو أهمية الكنيسة في الحياة المسيحية وفي الخدمة وفي حياته الشخصية. الكنيسة أي الشعب والأسرار والكلمة والوعظ. رغم انشغالاته الكثيرة، كانت الكنيسة دائمًا هي الأساس. كانت الكنيسة القاعدة التي انطلق منها. وهي من تعطي الشرعية والحماية، وكذا القوة والتشجيع والسند. فاللاهوتي والمؤسس للديار والناشط السياسي الدكتور متري الراهب – هو القسيس الخادم الذي وعظ الكلمة وحافظ على الليتورجيا، وأجري السرّين المقدسين، وزار المرضى. هنا التقى الله. وهنا قرّبنا من الله. وبالنسبة لي شخصيًا، كنت انتظر يوم الأحد من الأسبوع إلى الأسبوع – لأنني ألتقي الله هنا، والقسيس ساعدنا جميعًا في ذلك.

والآن وإذ أستلم رعاية الكنيسة من بعده... هناك مشاعر متناقضة في داخلي. من ناحية متحمّس... وأيضًا خائف وهناك رهبة. لقد ترك لنا القسيس لنا إرثًا قيمًا وغنيًا جدًا. وأتشرف أن أكون من يكمل هذا الإرث. ولكن، أن تخلف متري الراهب ليس بالأمر السهل! يقولون لي: "أنت من سيأخذ مكان متري". لكن في الواقع، لا يوجد من يمكنه أن يأخذ مكان القسيس متري. فهل سأكتب 18 كتاب أو أن أؤسس أكبر مؤسسات فلسطين الثقافية وكلية جامعية نتطلع أن تصبح جامعة... أو أن أربح طبعًا جوائز عالمية؟

أعدكم في المقابل أن أكون نفسي، وأن أخدم بأمانة، وأن أحب الله كما أحبه قسيسنا. وأن أحب الوطن كما أحبه قسيسنا. وأن أحب عائلتي كما أحب قسيسنا عائلته. وأخيرًا، أن أحبّ الكنيسة وأن استثمر فيها كل مواهبي التي أعطاني إياها الله.

يا قسيس متري: هذه كنيستك... هنا تاريخك وتاريخ عائلتك. هنا تعمدت وتثبت وتزوجت. وهنا خدمت. وهنا ربيت عائلتك. نريد أن نراك بيننا دائمًا... ولا تبخل علينا بعظاتك بين الفينة والأخرى.

ستبقى بالنسبة لي شخصيًا المرشد والمعلم والأخ. سأستشيرك دائمًا. صلاتي أن أثبت أن ثقتك بي كانت في محلها.
نجتمع في هذا الصباح في أحد العنصرة. في زمن العنصرة كانت رسامة القسيس عام 1988. قلتَ أنت حينها:

"إنني وجدت نعمة في عينيّ الله. فلقد ارتأى الله أن يختارني من أسرة صغيرة ومن عائلة متواضعة فقيرة... لم أكن يومًا أفضل الخلق وما كنت بأتقاهم. ولكن رغم هذا نظر الله إليّ ورفعني... وضع يده عليّ وباركني. قادني في طفولتي وشبابي... وما كنت يومًا استحق كل هذه النعمة. نعمة المسيح فاضت عليّ وغطتني. بركة الله انسكبت عليّ وملأتني. لذا لا يسعني إلا أن أهتف وأقرّ وأعترف بأنني وجدت نعمة في عينيّ إلهي".

نقول معك: "آمين". ولقد رأينا نعمة الله في حياتك. رأينا يد الله عليك. رأينا وجهه يسير أمامك. حياتك تشهد عن الله – فله وحده المجد في هذا الصباح.

وفي زمن العنصرة، وبعد 29 عامًا من رسامة القسيس متري، أبدأ خدمتي معكم خلفًا له. وكأن الله يقول لنا: "نأتي نحن الخدام ونذهب وتبقى الكنيسة... ". فالموضوع هنا هو الكنيسة، وليس متري أو منذر. نحن نأتي ونذهب، ولكن الكنيسة تبقى. أقتبس في نهاية عظتي من عظة للقسيس متري في عام 2005:
"شكرًا لله أننا لا نؤمن ببولس ولا بمتري ولا بمنيب بل بيسوع المسيح ربًا ومخلصًا... هؤلاء جميعًا أدوات في يدّ الله... الطائفة والراعي اثناهما يثبتان في المسيح... لو كان إيماننا مؤسسًا على الرسول أو الراعي أو أفراد وعائلات الطائفة لما كان أشقانا أيها الأحباء... بل لانهارات أسس هذه الكنيسة منذ زمن بعيد... ولكننا رعاة ورعية إنما نحن مؤسسون على صخر الدهور... على النعم الثابتة... على محبة الله الغافرة... على الجلجثة التي لا تزعزع أبدًا". 

آمين. بهذا اليقين وبهذا الرجاء سنسير ونمضي إلى الأمام.  وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع، آمين.

ا

Comments